الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال البغوي: «وقيل كانت مغروزة بالدبر فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين وهما أحد عشرة آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات فكلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي كأنما أنشط من عقال قال وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما فإن المرض يجوز على الأنبياء وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه في مرضه ووقع حين انفكت قدمه وجحش شقه» رواه البخاري ومسلم وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجه وابتلى بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد وغير ذلك فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله قالوا وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري: «أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت فقال: نعم فقال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك» فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد لما اشتكى فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته صلى الله عليه وسلم وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره قالوا وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها أما قوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلًا مَسْحُورًا} وقوله قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} فقيل: المراد به من له سحر وهي الرئة أي أنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ليس بملك ليس المراد به السحر وهذا جواب غير مرض وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ولا يعرف هذا في لغة من اللغات وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر فقالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا أنؤمن لبشر مثلنا أبعث الله بشرا رسولا وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر وهي الرئة وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع ثم كيف يقول فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} أفتراه ما علم أنه له سحرا وأنه بشر ثم كيف يجيبه موسى بقوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى وقال: نعم أنا بشر أرسلني الله إليك كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} فقالوا {إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ولم ينكروا ذلك فهذا الجواب في غاية الضعف وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة وهو أن من علم السحر يقال له مسحور ولا يكاد هذا يعرف في الاستعمال ولا في اللغة وإنما المسحور من سحره غيره كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه: وأما من علم السحر فإنه يقال له ساحر بمعنى أنه عالم بالسحر وإن لم يسحره غيره كما قال قوم فرعون لموسى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ففرعون قذفه بكونه مسحورا وقومه قذفوه بكونه ساحرا فالصواب هو الجواب الثالث وهو جواب صاحب الكشاف وغيره إن المسحور على بابه وهو من سحر حتى جن فقالوا مسحور مثل مجنون زائل العقل لا يعقل ما يقول فإن المسحور الذي لا يتبع هو الذي فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول فهو كالمجنون ولهذا قالوا فيه معلم مجنون فأما من أصيب في بده بمرض من الأمراض يصاب به الناس فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءهم من اتباعهم وهو أنهم قد سحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين ولهذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} مثلوك بالشاعر مرة والساحر أخرى والمجنون مرة والمسحور أخرى فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيره طريقا يسلكه فلا يقدر عليه فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة فهو متحير في أمره لا يهتدي سبيلا ولا يقدر على سلوكها فهكذا حال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى ضربوا له أمثالا برأه الله منها وهو أبعد خلق الله منها وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان وأما قولكم إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم اذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة لا إله غيره ولا رب سواه.فصل:وقد دل قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وحديث عائشة المذكور: على تأثير السحر وأن له حقيقة وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وقالوا إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد قالوا وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وحلا وعقدا وحبا وبغضا وتزينا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه وقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا والمتصل منفصلا والميت حيا فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا وغير ذلك من التأثيرات وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} فبين سبحانه أن أعينهم سحرت وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهذا كما إذا جر من لا يراه حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى الجار له مع أنه هو الذي يجره فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتقلب الحية فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأي الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا بل حركة حقيقية ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس ولا يسمى ذلك سحرا بل صناعة من الصناعات المشتركة وقد قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون: لم يكن هذا من السحر في شيء ومثل هذا لا يخفى وأيضا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤلاء لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها وأيضا فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة بل يكفي فيها حذاق الصناع ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والجزاء وأيضا فإنه لا يقال في ذلك إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها وبالجملة فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده فلنرجع إلى المقصود.فصل:الشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فحقق الشر منه عند صدور الحسد والقرآن ليس فيه لفظة مهملة ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاه عنه فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ووجهت إليه سهام الحسد من قبله فيتأذى المحسود بمجرد ذلك فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد فقوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ} بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل تأثير العين وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري الصحيح رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك» فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئا وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة واتسمت واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد فربما أعطيه وأهلكه بمنزلة من فوق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا وربما صرعه وأمرضه والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث فتحدث فيها تلك الكيفية السم فتؤثر في الملسوع وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة فتطمس البصر وتسقط الحبل كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين منها: وقال: «اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل» رواه البخاري ومسلم فإذا كان هذا في الحيات فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها فلله كم من قتيل وكم من سليب وكم من معافي عاد مضني على فراشه يقول طبيبه لا أعلم داءه ما هو فصدق ليس هذا الداء من علم الطبائع هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها عجائب الأرواح وتأثيراتها وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس والمحجوبون منكرون له ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى وهل الانفعال والتأثر وحدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح والأجسام آلتها بمنزلة آلة الصانع فالصنعة في الحقيقة له والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم ولطفت روحه وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها كل ذلك بتقدير العزيز العليم خالق الأسباب والمسببات رأى عجائب في الكون وآيات دالة على وحدانية الله وعظمته وربوبيته وإن ثم عالما تجري عليه أحكام أخرى تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع وأحسن كل شيء خلقه ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر وآياته أعجب وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل وتلك الصنائع الغريبة وتلك الأفعال العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات كيف ذهبت كلها مع الروح وبقي الهيكل سواء هو والتراب وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك أو يعاديك ويخف عليك ويثقل ويؤنسك ويوحشك إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر فرب رجل عظيم الهيولي كبير الجثة خفيف على قلبك حلو عندك وآخر لطيف الخلقة صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها وبالجملة فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلا والأشباح تبعا.فصل:والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينه نفسه فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} إنه الإصابة بالعين فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حجته وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها ثم يقول لخادمه خذ المكتل والدرهم وآتنا بشيء من لحمها فما تبرح حتى تقع فتنحر وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائة فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به كفعله في غيره فعصم الله تعالى رسوله وحفظه وأنزل عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} هذا قول طائفة وقالت طائفة أخرى منهم ابن قتيبة: ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن الكريم نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك قال الزجاج: يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في الكلام.يقول القائل: نظر إلى نظر قد كان يصرعني، قال: ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن الكريم وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة فيحدون إليه النظر بالبغضاء النظر الذي يؤثر في المنظور قلت: النظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون بسببه شده العداوة والحسد فيؤثر نظره في كما تؤثر نفسه بالحسد ويقوى تأثير النفس عند المقابلة فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه وتوجهت النفس بكليتها إليه فيتأثر بنظره حتى إن من الناس من يسقط ومنهم من يحم ومنهم من يحمل إلى بيته وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا وقد يكون سببه الإعجاب وهو الذي يسمونه بإصابة العين وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه فيصاب بذلك قال عبد الرزاق بن معمر عن هشام بن قتيبة قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين حق». رواه البخاري ومسلم «ونهى عن الوشم» رواه البخاري ومسلم وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني جعفر تصيبهم العين أفتسترقي لهم قال: نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين». صحيح فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العدواة فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته فهذا أشد من نظر العائن بل هو جنس من نظر العائن فمن قال إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى ومن قال: ليس به أراد أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب فالقرآن الكريم حق وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من عين الإنسان» صحيح فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها وفي الترمذي من حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة التميمي حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا شيء في الهام والعين حق» ضعيف لكن قوله «والعين حق» صحيح وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا». رواه مسلم وفي الباب عن عبد الله بن عمر وهذا حديث صحيح والمقصود أن العائن حاسد خاص وهو أضر من الحاسد ولهذا والله أعلم إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم فكل عائن حاسد ولابد وليس كل حاسد عائنا فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها الساحر والحاسد فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها بل هو من خبثها وشرها بخلاف السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين: شر الحاسد وشر الساحر لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن فالحسد من شياطين الإنس والجن والسحر من النوعين وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن وهو الوسوسة في القلب فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه بل هو أذى من أمر خارج عنه ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق والوسواس إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له وقبوله منه ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم لأن ذلك بسعيه وإرادته بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أحد حَتَّى يَقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أحد إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الالتباس وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما في موضع غير هذا إذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما وإن لا يقوم غيرهما مقامهما وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وفي قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبها ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله وأبى أن يسجد له حسدا فالحاسد من جند إبليس وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه وربما يعبده من دون الله تعالى حتى يقضي له حاجته وربما يسجد له وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ ولهذا كان سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام وهم الذين سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الموطأ عن كعب قال: «كلمات أحفظهن من التوراة لولاها لجعلتني يهود حمارا أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ» رواه مالك ورجاله ثقات والمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده ويأمره بموجبه والساحر بعلمه وكسبه وشركه واستعانته بالشياطين.
|